رسوم في الذاكرة

.... كهل مضت به سنون العمر .. قارب الخمسين صار يوما جدّا فتذكر جده ... سيروي الحكاية من البداية

و أنا أقود سيارتي .. مرّ من أمامي وسط الشارع العريض .. يدق عصاه عليه ، يمشي بهدوء .دست على المكبح بقوة لأتجنب الإصطدام به ، لحيته البيضاء الكثيفة تغمر أغلب وجهه، توقفت ، رأيت فيه صورة جدي حتي أني رغبت في النزول من سيارتي لأرتمي بين أحضانه ... للحظات كدت أصدّق أنه عاد إلى الحياة .. رغبت في أن أحمله معي إلي البيت .. لنفرح من جديد .. فكرت أيضا في حفيدي .. كيف سيقابل هذا الذي أنا حفيده .. ولم استفق من هذا الحلم اللذيذ إلا على أصوات مزامير السيارات من خلفي تدفعني إلى مواصلة السير أو فسح المجال ..
تحركت بسيارتي من جديد لكن صورة ذلك الشيخ لم تفارقني .. حرّكت قلبي بعنف فعاودتني الأحلام و الذكريات ..
رأيت نفسي صغيرا و جدي يلاعبني ، يرفع القميص عن بطني ليدغدغني، أ موت ضحكا .. يضحك هو ، تضحك أمي أيضا و كذلك أبي .. وكل القرية تضحك ، أفر منه هربا .. لا يقدر على ملاحقتي .. يُناديني فلا أستجيب أ ختبيء يصيح بأعلى صوته " اخرج من الغار أيها الفار" فلا أكترث .. عندها يهددني .. ان لم تخرج لن أكمل لك حكاية " الغول" فأضطر عندها للاستجابة لندائه ..
لقد شارك جدي في حرب سنة 1948 ضد الصهاينة ، تطوع مع مجموعة من أهل البلد وقد قال يومها أنه ذاهب للحج ، وفي مصر اشترى بندقية او سلمها له الجيش لا أعرف ، المهم صار لديه بارودة يقاتل بها اعداء الدين و اعداء الوطن ...وعندما انتهت الحرب عاد مثخنا بالجراح ... جراح الهزيمة .. فلا هو استطاع ان يحرر الوطن و لا ان ينتقم من الصهاينة كما كان يحلم .. حزن على الوطن المغتصب و على الرفاق الذين دفهنهم هناك وعلى حلم صار موؤودا . اصبح جدي قليل الكلام منذ ذلك الوقت فقد زادت همومه و ثقلت أحماله
ذات صيف تفتح قلبه من جديد .. تماما كما تعود النباتات الى النمو و الإزهار بعد الشتاء ، قال : اليوم فقط سأمسح عني حزن السنين السابقة ، اليوم فقط افرح من جديد . صار لا ينام ، يلتصق بالمذياع حتي كأنه جزء منه . يردد الأناشيد ... أحنا حملنا سلاحنا و جينا.... بلادي بلادي ... صباح الخير يا سيناء... و الى غيرها من الاناشيد التي يرددها الفنانون بحماس الثوار . كان يحرك إبرة المذياع في كل الإتجاهات باحثا عن خبر جديد يستعيد به نشوته المفقودة منذ عشرين عاما
بيانات عسكرية ملتهبة .. طائرات العدو الصهيوني تلتهب ، تحترق في الجو و تسقط ، عدد الطائرات التي تم إسقاطها فاق مخزون سلاح جو العدو منها .. وكان جدي يهتز طربا و يزداد نشوة .. خيل إليه ان جيوشنا صارت على مشارف القدس ، و انها قريبا ستصدر بيان التحرير.. تحرير اولي القبلتين و ثالث الحرمين ... إنه يسمع الانباء لكنه يعيشها ..طائراتنا تهدم البيوت على بني صهيون الملاعين ... سنرمي بهم في البحر ... سنغيّر التاريخ و نغير الجغرافيا أيضا ومن فرط الابتهاج كان جدي بين الحين و الأخر يخرج بارودته و يطلق النار في الهواء ..
خمسة أيام لم يذق خلالها طعم النوم الا نزرا قليلا .. مجرد إغفاءات و يستيقظ ، لا يريد ان تفلت منه أبسط المعلومات، انه الان يكلم اطياف رفاقه الذين دفنهم ذات يوم هناك .. يقول لهم ابشروا .. يوم النصربات قريبا .. بل ربما منّى نفسه بزيارتهم و الدعوة لهم حيث دفنوا.
في اليوم السادس جاءته أمي بقهوة الصباح كالعادة ، حيته فلم يجب ، توقعت ان يكون النعاس قد غلبه فنام ، اقتربت منه ، لمحت على وجهه هموم الدنيا كلها .. نادت أبي فأتي مسرعا و جئنا جميعا خلفه ..... كان جدي قد مات ومن ذلك المذياع القريب منه ينبع صوت مذيع باحدى المحطات
" خسرنا المعركة....."
شد انتباهي ضوء مقابل وصوت منبه سيارة قادمة من الإتجاه المقابل .. عندها فقط عرفت أن سيارتي زاغت مني تماما كما زعت انا مع ذكرياتي .

إبداع جديد من صاحب القلم الألماسي ..

سأكون هنا قريبا بإذن الله

شهد ع كتب:

إبداع جديد من صاحب القلم الألماسي ..

سأكون هنا قريبا بإذن الله

السلام عليك أخي

ما أروع هذه المشاعر الوطنية
و كم هم رائع حب الجهاد و نصرة دين الله

أتعلم أخي أن قصة الجد هي قصة حقيقية لم تحصل مرة واحدة فقط

بل تكررت مرارا و تكرارا

هي ذات الحسرة التي تحسرها كل منشارك في الجيوش العربية

عام 1967م و انتهت بهزيمة مخزية لجيوش العرب و احتلال قطاع غزة و الضفة الغربية

أجل اخي هي نار اشتعلت في صدور الكثيرين حتى ماتوا بحسرتهم

لكن الله وعدنا نصره و إن طال الضيم و الظلم


حقا مشاعرك هنا كانت رائعة حقا

و وصفك للأحداث كان جميلا و مفعما بروح العروبة ...

لكن يا مهيارنا العزيز هل بلغ بك الجوع حده حتى أكلت الهمزات

هههههههههههه

لكنك كنت مميزا كما عهدتك دوما

ألقاك في عمل مميز جديد

السلام عليكم:

أخي مهيار بداية القصة رائعة أدخلتنا إلى عالمك بأسلوب أنت نسجته بيديك برغم من مضمون

القصة الوطني حدثتنا عن ذكريات الماضي

خليط رائع بين قصة وطن وقضية وأرض وشعب وبين مشاعر تمثلت بجد

أسلوبك في السرد كان بسيط سهل يلامس المشاعر لأنك تحدثت عن الوطن

التراكيب مناسبة لموضوع النص أول مرة أقرأ قصة لمهيار أحسستها وكأني أنا تمنيت أن أكتبها

دائما كنت أرى في قصصك الغموض ونوع من الفلسفة

والحق يقال أبدعت وتستحق أن نقف أمام قلمك بإجلال

تحياتي لك ..................سراب

قصة رااااااائعة
بل أكثر من رائعة
لي عودة إن شاء الله

سراب كتب:

السلام عليكم:

أخي مهيار بداية القصة رائعة أدخلتنا إلى عالمك بأسلوب أنت نسجته بيديك برغم من مضمون

القصة الوطني حدثتنا عن ذكريات الماضي

خليط رائع بين قصة وطن وقضية وأرض وشعب وبين مشاعر تمثلت بجد

أسلوبك في السرد كان بسيط سهل يلامس المشاعر لأنك تحدثت عن الوطن

التراكيب مناسبة لموضوع النص أول مرة أقرأ قصة لمهيار أحسستها وكأني أنا تمنيت أن أكتبها

دائما كنت أرى في قصصك الغموض ونوع من الفلسفة

والحق يقال أبدعت وتستحق أن نقف أمام قلمك بإجلال

تحياتي لك ..................سراب

العزيزة سراب أولا اعتذر عن تأخري في الرد لإنشغالي بهموم إعداد تقنيات المنتدى و تطويره شكلا و مضمونا حتى يناسب تطلعات الأعضاء الكرام ثانيا .. الكتابة عن الوطن عزيزتي هي بمثابة بلسم للجرح الذي لم يندمل بعد .. صحيح أننا نحس الألم و نحن نعالج الجراح لكنها في النهاية آلام بها بعض اللذة و كذا الكتابة عن هموم الوطن
ثالثا .. عن التغيير في اسلوب الكتابة فقط أخبرك انني ممن يكرهون النمطية اي اتباع خط واحد فالنمطية عندي قاتلة الإبداع و لا تستغربي أن تري اساليب أخرى

خالص الود و التقدير على ردك المتميز

نورانة كتب:

قصة رااااااائعة
بل أكثر من رائعة
لي عودة إن شاء الله

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لكأن كلماتك جعلتنا وبطلك نعود أطفالا نتتبع تحركات ذلك الجد ووطنيته ننظر إليه بانبهار نحزن عليه بانكسار
....وطنٌ كُسير ..جندي أسير
شكرا أخ مهيار على هذه القصة الرائعة التي جعلتنا نعيش تفاصيلها بأسلوبك الجميل