ليــالي الحــرمان
دعني أتأمل قسمات وجهك..دعني أحدق بهذه العيون طويلا..
لأحفظها في ذاكرتي عند الرحيل..
ما أصعب أن أراك تختفي من أمامي بكل سهولة..وتنسى حبنا الذي جمعنا لسنوات تحت هذا السقف,وبهذا البيت الصغير..الذي أحببته فقط لان عبقك موجود فيه..وهذه الأزهار التي كنت اقتطفها كل يوم لتفرح بعطرها الذي ينشر الغبطة بين أرجاء منزلنا..
كانت هذه آخر عبارات لفظتها شفتا هند مودعة حبيبها الذي تبرع لخدمه وطنه والدفاع عنه.. فكان نداء الوطن أقوى من نداء الحبيبة التي تسكن روحه وينبض بها قلبه..
_لا تحزني لرحيلي..وثقي دائما أنني أحارب أيضا من اجل عشقنا هذا..من اجل خلوده..
قال كلماته وضم زوجته لصدره مضيفا:
سأكتب لك..سأكتب لك كل يوم طالما بقيت على قيد الحياة..
ويغيب الزوج تاركا نصف روحه تقاسي الوحدة والألم..فكان حنين هند أقوى من عبراتها الرقراقة ..
باتت الآن لوحدها تعانقها الذكريات..تتجول بأنحاء المنزل وبكل ركن فيه باحثة عن أطلال شخص غاب تاركا خلفه أشلاء ماضي وحاضر مجهول..!
تنظر لمرآتها المعلقة في غرفتها..فيخيل إليها طيفه جاثم ورائها..واضع برفق عقد من الماس حول عنقها..
كانت أجمل هدية أهداها إياها في ذكرى زواجهما الثاني..
تبتسم بعمق وتدمع عيناها مرة أخرى..
فما أصعب أن ينقسم القلب نصفين أو يبقى النصف ضائعا يبحث عن ذاته وسط قلوب مبعثرة!
رائحة عطره المميزة تملئ كل حيز في الغرف..حتى وسادته البيضاء اعتادت هند على معانقتها كل ليلة ودفن آهاتها بها..
علبة سجائره فارغة موضوعه في إحدى الأدراج..
وقلمه موضوع على المكتب بجانبه بعض الأوراق كأنما تنتظر صاحبها ليضع أنامله مخططا أجمل عبارته..!
يرن جرس الهاتف وفي كل رنه كان قلب الحبيبة يهتز من مكانه..فيخيب ظنها عندما تعلم انه شخصا أخر..
وكأن القدر يسخر منها في كل مرة تحاول فيها الابتسام..!
ليالي الحرمان كانت أفظع ليالي عاشتها مع نفسها..مما جعلها تعيش ذكريات لغاية رجوع حبها المنتظر..
يدق جرس الهاتف فتركض إليه متلهفة..فإذ به زوجها بصوته الدفيء مجيبا:
_هند..أما زلت تذكرينني يا عمري؟ كيف حالك..؟
_لا اصدق أنني اسمع صوتك من جديد..هل حن الزمن علي وحقق أمنيتي أخيرا..
لا تسألني عن حالي..فهي تائهة منذ ساعة رحيلك..أحيى بجحيم بعد أن كانت ذراعاك هما الأمان والدفء الذي استمده وأنا بينهما..الكون لم يعد هو الكون..والنهر انقطع عن جريانه..
تضيف بصوت أقوى من ذي قبل:
عد إلي..عد قبل أن يجف هذا القلب الذي زرعته بيدك..
_اصبري يا حبيبتي..ولا تكوني كطفلة صغيرة فقدت والدتها..
سأعود يوما وأعوضك كل الحرمان الذي عشته بعيدا عني..
والى لقاء قريب يجمعنا..
تغلق الزوجة الهاتف وتعود لصمتها تبحث عن أثار لأطلال أخرى..
تمشي خطوات قليله لتتوقف في البهو حيث الصور الكبيرة المعلقة..
إنها صورته بعينيه المكحلتين ووجهه المستدير..وضحكته الغامضة
التي تميزه عن غيره..
شهور وشهور تمضي ولكن هذه المرة بدون أي اتصال أو حتى رسالة..فيغيب الأمل ويحل التشاؤم مخيما على الظلمة..
ويفتح الباب على هند ملقاة على إحدى الأرائك..بيدها البوم صور قديم..ولكنها جسد فقط لان الروح اختطفتها الملائكة بعيدا..
فتبقى قصتها ذكرى لأصعب ليالي عاشتها بحرمــان..!
عاشقة العندليب الاسمر