لا زال العرض مستمرا و الأنوار المطفأة ... لا أدري حتى متى !! المشهد الثالث جلست في ركن الغرفة أنعم النظر إليه ... كان هادئا ساكنا يؤدي فرض ربه بخشوع يسكب في نفسي دفقات من ورع و رهبة تجلت تحفنا من كل صوب ...
حين أنهى صلاته شعر بنظراتي الحائرة التي كانت تجوب أركان المكان ؛فبادرني قائلا
:"تعالي يا صغيرتي إلى حضن والدك .. لقد اشتقت إليك جدا " . ... تسمرت في مكاني دون أي حراك ...
لا أدري أي خوف ذاك الذي كان يسيطر علي و يمنعني من الجري لأرتمي في أحضان والدي الذي لم أره منذ عدة أيام بسبب تواجده في المشفى كما اخبروني ...
"ما بك حبيبتي ؟... ألم تشتاقي إلى والدك العزيز ؟"لا زال الخوف ينتابني و قدماي لا تقويان على الحراك ،فقرر والدي أن يأتيني ليزيل عني رهبتي تلك ،و تحرك بكرسيه ذي العجلات الكبيرة ... إنه هو هذا الكرسي ذي العجلات ... هو من يخيفني ... إنه جديد لم أعتد عليه ... لماذا يحاصر أبي ؟ ... لما لا ينهض عنه و يحتضنني ؟.... لما لا يأتي إلي و يأخذ بيدي يقبلها كما اعتدت منه ؟...
كانت الاسئلة تتزاحم في مخيلتي الصغيرة ، و والدي يقترب مني اكثر فأكثر حتى أصبح ماثلا أمامي ، و لا زال الضعف يسري في أوصالي و الرهبة تزيد حدة نبضاتي ، و دونما شعور مني وجدته يمسك يدي الصغيرة بين يديه و يقبلها ...
إنها ذات القبلة و ذات الأنفاس .. إنه أبي ... هو نفسه ...
ترقرقت الدموع في عيني ، و ارتميت في أحضان والدي أبكي دموعا لطالما احتضنتها مقلتاي و أنا أسأل كل يوم
:"أمي أين هو والدي ؟ لماذا تركتموه في المشفى " ، فأرى العبرات تنحبس في عينيها أيضا .
دقائق مرت و لا زلت أبكي في احضان والدي ،حتى شعرت بيده الطاهرة تداعب وجهي و أنامله الرقيقة تمسح دمعي ...
"يالك من طفلة يا صغيرتي ... ما كل هذا البكاء ؟! ... أهكذا تبكي ابنة المجاهد ؟!" كان لكلمة "المجاهد"وقع غريب في قلبي فرفعت رأسي و قلت لوالدي
:"كيف يا أبتي ؟.. ألست ابنتك ؟ .. كيف أكون ابنة المجاهد؟!" كانت ضحكات والدي التي انطلقت بعد سماعه كلماتي كفيلة بجعلي أضحك دون أن أعرف حتى سبب ضحكاته ..
"اسمعي يا ابنتي ،أنا والدك و انا أيضا المجاهد ، المجاهد يا عزيزتي هو من يضحي بكل ما يملك حتى نفسه و روحه فداء لوطنه الذي يرزح تحت نير الاحتلال " .كنت أصغي باهتمام إلى كلمات والدي و أتأمل ابتسامته المتلألئة التي ترتسم بدقة على وجهه ثم سألته
:"لماذا كنت في المشفى يا أبتي ؟"" إنه بالضبط ما كنت اخبرك إياه قبل قليل ... إنه الجهاد يا بنيتي .... قبل أسبوع من الآن كنت في رباط على ثغر قرب الحدود بيننا و بين اليهود الذين يتربصون بنا لنغفل عن ثغورنا فيباغتونا و يدخلون أرضنا ليعيثوا فيها فسادا".كانت كلمات والدي صعبة علي .. سمعتها مرارا لكنني يوما ما فهمت معناها ... إلا أنها دوما كانت تشعرني بالفخار و العزة .... كان ينتابني شعور غريب بالنشوة حين كنت أرى والدي مرتديا لباسه العسكري ، متوشحا سلاحه ليخرج إلى الرباط ...
تابع والدي
:" في ذلك اليوم شاء الله أن تتوغل آلية صهيونية حين كنت أرابط و إخواني المجاهدين ؛فأشرعنا أسلحتنا و بدأن تبادل إطلاق النار مع القوة الخاصة فتمكنا بفضل الله من إصابة عدد منهم ، إلا أن الدبابة الصهيونية باغتتنا بقذيفة مدفعية فأصيب عدد منا " " أصبتم ؟! ...و أنت يا أبي هل أصبت مع المجاهدين ؟"نظر إلي والدي و شعر بلهفة سؤالي فضمني إليه أكثر ثم قال:
"أجل يا قرة العين ... أصبت في ساقي اليسرى و اضطروا لبترها حتى الركبة .." نزلت كلماته علي كالصاعقة فقفزت من مكاني و كشفت الغطاء عن ساقه و بالفعل كان كما قال ...
عادت الدموع لتتدافع إلى عيني ثانية و تنحدر عن وجنتي فتبلل الضماد الذي غطى جرح والدي ... الآن فقط عرفت لما كان الكرسي ذي العجلات يقيده و يمنعه من ضمي ...
"ألم نتفق أن ابنة المجاهد لا تبكي؟ هيا يا ابنتي كفكفي دمعك ..""ألن يعطوك ساقا جديدة ؟""بلى يا ابنتي ... سيضعون لي ساقا اصطناعية لكنني لا أدري متى ... يجب ان ننتظر حتى يسمحوا لي بالسفر عبر معبر رفح لئلا يأسرني اليهود إن مررت عبر معابرهم ""لكنه مغلق يا أبتي ..""لا عليك عزيزتي ... سأنتظره حتى يفتح ... أتمنى أن هذا لن يطول "زال عني بعض القلق الذي اعتراني و أمسكت يد والدي و قلت :
"هيا يا والدي ... سنذهب لنجلس مع جدتي في الخارج""حسنا ... إذا هيا ادفعيني لنذهب معا "نهضت مسرعة و أمسكت مقبض الكرسي و قلت لوالدي
:" هل ستترك الجهاد و الرباط يا أبتاه ؟""أبدا يا عزيزتي .. لا يمكن هذا .. فلسنا نحن الذين تضعفناالشدائد و تفتك بعزائمنا التي لا تلين .."تفتر ثغري عن ابتسامة بريئة توشحت بالإباء الذي زرعه والدي في أعماق قلبي ...
همست لوالدي:
"و أنا أيضا سأكون مجاهدة يا أبتاه ... " صرخة الحرائر : يزيد عدد المعاقين في قطاع غزة عن 69145 معاقا حتى عام 2005 ... ترى الآن كم يبلغ عددهم ؟! آلاف منهم بحاجة لتركيب أطراف اصطناعية ليعيشوا كما الآخرين و للأسف علاجهم لا يبعد عنا سوى بضعة كيلومترات فمتى يا دول الطب و العلم تتحركون ؟!!
يتبع